أحـــلام اليقظــة
******************
منذ صدور ذلك المرسوم التشريعي الذي تناقلته الصحف و المجلات ودور النشر
وأجهزة الإعلام واليافطات المعلقة على الجـــدران في كل مكـــان
و الذي يمنـــح جميع المواطنين : حاملــي البطاقات الشخصيــة ،
والبطاقات الإنتخابية و البطاقات التموينية والأمنيــة والنقابيـــة و التعبوية و الحزبيــة
وحسن السلوك و البطاقات الهاتفيــة و بطاقات الدخول والخروج
حريــــة الأحـــلام
و أنـا أحلــم مثل كـل مواطن وديـــــــع ، كنت أحلــم ...
في البداية كانت أحلامي جميلة جمال هــذا الوطن ، و كنت أتشبث في فراشي كطفـل
صغير أبعـدوه عن ألعابه ، كلمــا أعلــن جرس المنبـه عن بـدء يـوم جديــد
ولكن أحلامي بدأت تكبــر مع آلامــي ،
وأصبحت مزعجـة مؤرقـة و تحولت الى أحلام يقظــة ترافقني في كل الأوقــات
ولم أكــن و الحــق يقــال مستاءً الى هــذا الحــد
فقد تعرفت على العـديــد من الشخصيات التاريخية و السياسية و البلدان و المواقف
و الشعارات و القضايا من خلال أحـــــلام اليقظــة هـــذه ،
فبالأمس مثلاً كانت تجلس الى جواري الوحــدة العربيــة ،
في طريقي الى نقابة الباعة المتجولين و دار بيننا حديث ممتع
حـول أسباب الإنفصال و دوافعــه
و كانت بالقرب منـا تجلس الوحــدة الوطنيــة ، تسترق السمع و تضحك لكل كلمة تقــال
وهي تحاول جاهدة إيقاف صراخ أولادهـا الذين يسرحون و يمرحون في أرجــاء الحافلة رقم 19
صحيح أنني لم أفهم شيئاً مما دار بيننـــا لشدة الضجيج ، لكنني كنت سعيداً برؤية الوحـدة العربية
والتقيت مع صلاح الدين الأيوبي في إحــدى المكتبات و أنا أبحث عن كتاب فـــن الطبخ الأميركي
وتحدثنـا عن أفضل السبل لإسترجاع القدس و مهــد المسيح له المجــد في السماء وعلى الأرض
وفي ركن من المكتبة ذاتهـــا كانت القضيـة العربيــة ترش الماء البارد
على وجــه المعتصم بالله
في محاولة يائسة لإيقاظـه من غيبوبتــه بإنتظـــار سيارة الإسعاف
صحيح أننــا لم ننهي الحـوار نظراً للظروف الطارئــة بالمكتبة ،
لكنني كنت سعيداً بحضور سيارة الإسعاف
خــلال عشرة قــرون فقـــط .
و إشتدت حــالة الإعيــاء عنـدي و كثرت لقــاآتي مع شخوصي الإفتراضيــة
و أصبحتْ مصدر إزعــاج لمن حولـي من الأهـل و الصحب ،
و نصحني أحــد الزملاء و هو طبيب نفساني مخضرم أن أخرج
عن حالة اللاوعي هذه بالدخول في حالة لا وعي أخرى تعادلها بالقـوة و تعاكسها بالإتجـاه
على رأي إخواننـا المهندسين ، أي و داوهــا بالتي كانت هي الــــداء .
لم أقــاوم رغبتي الشديدة في تنفيذ فتــوى زميلي الطبيب
فوثبـت الى أقــرب مشرب على الناصية ممنياً النفس
بدفء جميل بعيدأً عن عواصف الشارع البارده ،
وأخذت مكاني على البــار تماماً كما يفعـــل بنــوا "الكوبوي"
و طــال إنتظاري لزميلـــى الطبيب و بــدء القلق يتسرب الى قلبي ،
و هممت بالخروج عندما لمحته يدخل الحانة
و هو يؤشّر بيديــه كشرطي المرور في شارع مزدحــم ، منهمك في حديث مسموع ،
يضحك و يبكي في آن معـاً
كمن أصابه مسٌّ من الجنــون ، ضممته الى صــدري أخفف من روعــه
أسأله عن سبب تأخره الطويــل في العيــادة
تنهـــــد صديقي وهو يمسح دمـوعه عن وجنتيــه و قــال :
زارني الوطـــن الليلة في عيـــادتي !..
صحيح أنني لــم أشرب شيئاً بعـــد ،
ولكنني خرجــت متأبطـاً ذراع صاحبــي ،
حزينــاً ... حزينــاً حتى الثمـــاله ..